المساعدات الجوية لغزة- فشل دولي أم تواطؤ لتحقيق أهداف إسرائيل؟
المؤلف: محمود علوش11.14.2025

بعد مرور ستة أشهر عصيبة على الحرب الطاحنة التي تشنها إسرائيل على غزة، وما يصاحبها من ممارسات قمعية تتجسد في سياسة العقاب الجماعي البغيضة، والتجويع الممنهج، والتهجير القسري الذي يطال الفلسطينيين، فإن أي مبادرات دولية تهدف إلى التخفيف من حدة الكارثة الإنسانية المتفاقمة في القطاع، حتى وإن كانت محدودة النطاق ولا ترقى إلى مستوى الفاجعة، تستحق الترحيب والثناء إذا ما أثمرت عن تحقيق هذا الهدف النبيل.
وعلى الرغم من ذلك، فإن عمليات الإنزال الجوي التي قامت بها بعض الدول مؤخرًا في سماء غزة، بهدف إيصال شحنات المساعدات الغذائية الضرورية إلى المتضررين، والتي كان من بينها الولايات المتحدة، ما هي إلا تجسيد صارخ لتقاعس المجتمع الدولي وعجزه عن إظهار ردة فعل إنسانية مؤثرة تجاه هذه الكارثة المروعة، وعجزه غير المبرر عن ممارسة الضغوط اللازمة على إسرائيل لوقف حرب الإبادة الجماعية التي تشنها ضد المدنيين الأبرياء في غزة.
هذه الآلية تخدم مصالح إسرائيلية استراتيجية، وتحقق لها مكاسب جمة، أبرزها إضعاف دور منظمات الإغاثة الإنسانية العاملة على الأرض، وتقويض وجود وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا".إن استبدال الآلية الفعالة المتمثلة في تعزيز إيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة عبر المعابر البرية ببديل غير مجدٍ وهو الإنزالات الجوية، يكشف عن الوجه القبيح لقضية المساعدات، ويؤكد أن الدول الكبرى القادرة على ممارسة النفوذ الحقيقي على إسرائيل، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تتعامل مع هذه القضية من منظور يتماشى بشكل سافر مع الأهداف الخفية لآلة الحرب الإسرائيلية. إن الرضوخ للقيود التعسفية التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي الغاشم على إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، والاكتفاء بإسقاط كميات محدودة للغاية من المساعدات من الجو، لا يساهم فقط في تعميق المأساة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون، بل يضفي شرعية زائفة على سياسة العقاب الجماعي الإسرائيلية، ويشجع إسرائيل على المضي قدمًا في إستراتيجية التجويع الشامل للفلسطينيين، سعيًا لتحقيق أهدافها الدنيئة التي عجزت عن تحقيقها عبر عمليات القتل العشوائي للمدنيين، وتهجيرهم من ديارهم. والسبب في ذلك بسيط وواضح، فآلية إيصال المساعدات عبر الجو، بدلًا من المعابر البرية الأكثر نجاعة وفاعلية، تمنح إسرائيل فرصة ذهبية لتحسين صورتها البائسة أمام الرأي العام العالمي، حيث تجري عمليات الإنزال الجوي بالتنسيق الكامل معها. كما تساعدها هذه الآلية في السيطرة بشكل محكم على المساعدات، ومنع وصولها إلى مستحقيها من الفلسطينيين المحتاجين، حيث ينتهي المطاف بمعظم هذه المساعدات في قاع البحر، أو خارج حدود غزة، ولا يتمكن الأشخاص الأكثر فاقة وعوزًا من الحصول عليها بأي شكل من الأشكال. وفضلًا عن ذلك، فإن هذه الآلية تحقق لإسرائيل مكاسب استراتيجية بعيدة المدى، وتخدم مصالحها العليا، وتتمثل في إضعاف دور منظمات الإغاثة الإنسانية العاملة على الأرض، وتقويض وجود وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا". وحتى إذا كان الهدف المعلن لإسرائيل، وهو منع حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة من الإشراف على توزيع المساعدات الإنسانية للمنكوبين، مشروعًا من وجهة نظر الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية التي شاركت في عمليات الإنزال الجوي للمساعدات، مثل المملكة المتحدة، فإن منع منظمات الإغاثة المحلية ووكالة الأونروا من القيام بدورها المنوط بها في ملف المساعدات، يخدم الأهداف الإسرائيلية الرامية إلى تصفية وكالة الأونروا بشكل نهائي، ويؤسس لسابقة خطيرة في التعاطي الدولي مع التداعيات الإنسانية للحروب والصراعات. ومما يزيد الطين بلة، أن قرار بعض الدول الغربية مؤخرًا بتعليق تمويلها لوكالة الأونروا، بذريعة الادعاءات الإسرائيلية التي تزعم تورط بعض موظفي الوكالة في الهجوم الذي شنته حركة حماس على مستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر الماضي، يعزز الاعتقاد السائد بأن هذه الدول تتساوق مع الأهداف الإسرائيلية الخبيثة التي تسعى إلى تقويض دور وكالة الأونروا، تمهيدًا لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين برمتها. وعلاوة على ذلك، فقد بات من الواضح والجلي أن إسرائيل تستخدم سياسة التجويع كسلاح فعال للضغط على المقاومة الفلسطينية في مفاوضات التوصل إلى وقف جديد لإطلاق النار. وإذا كانت الدول الغربية جادة بالفعل في العمل على التخفيف من آثار الكارثة الإنسانية التي لا يمكن تصورها في غزة، فإن هناك طريقتين أكثر تأثيرًا وأقل تكلفة لتحقيق هذا الهدف النبيل، بدلًا من إلقاء المساعدات عبر الجو بشكل عشوائي، والذي يبدو أنه مصمم بشكل أساسي لأغراض دعائية وسياسية أكثر من أغراضه الإنسانية. وتتلخص هاتان الطريقتان في الضغط على إسرائيل لفتح معبري كارني وإيريز مع غزة، وضمان الوصول غير المقيد لمنظمات الإغاثة الإنسانية، بالإضافة إلى تقديم ضمانات صريحة بعدم التعرض للمساعدات التي تدخل القطاع عبر معبر رفح البري مع مصر، إلى جانب استخدام الدبلوماسية الذكية والمساعدات العسكرية والاقتصادية المقدمة لإسرائيل كأدوات ضغط لإجبارها على تغيير سلوكها العدواني في الحرب، والتوصل إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار. ومع ذلك، يتضح جليًا أن الغرب لا يزال غير مستعد لاستخدام نفوذه بالشكل الأمثل والمطلوب على الاحتلال الإسرائيلي، وعزل ملف المساعدات الإنسانية عن موقفه السياسي الداعم للحرب. لقد أظهر المجتمع الدولي، بشكل عام، والدول الغربية، على وجه الخصوص، وباعتبارها تتحمل المسؤولية الأكبر عن الانتهاكات الإسرائيلية الصارخة للقانون الدولي والإنساني، فشلًا أخلاقيًا ذريعًا في التعاطي مع التداعيات الإنسانية للحرب الإسرائيلية الشرسة على قطاع غزة. ولن يكون بمقدور الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التعويض عن هذا الفشل الذريع أو التستر عليه من خلال الانخراط في عمليات الإنزال الجوي لإيصال المساعدات إلى غزة، لأن مثل هذه العمليات، بالإضافة إلى كونها لا تلبي ولو جزءًا يسيرًا من الاحتياجات الإنسانية المتفاقمة في القطاع، تعكس التواطؤ الغربي مع التوظيف الإسرائيلي الخبيث لملف المساعدات من أجل تحقيق أهداف الحرب بطرق أكثر دناءة وحقارة، كالتجويع الممنهج. كما أن هذا العجز الواضح في ملف المساعدات، إذا ما أحسنا الظن بالنوايا الظاهرية لعمليات الإنزال الجوي التي قامت بها بعض الدول الغربية، يعزز في الواقع قدرة إسرائيل على الإفلات من العقاب جراء جرائمها الوحشية.
